رسالة في ليلة التنفيذ
هاشم الرفاعي
أبتاه ماذا قد يخط بناني *** والحبل و الجلاد ينتظران
هذا الكتاب إليك من زنزانة *** مقرورة صخرية الجدران
لم تبق إلا ليلة أحيا بها *** وأحس ان ظلامها أكفاني
ستمر يا أبتاه لست اشك في *** هذا وتحمل بعدها جثماني
الليل من حولي هدوء قاتل *** والذكريات تمور في وجداني
ويهدني ألمي فأنشد راحتي *** في بضع آيات من القرآن
والنفس بين جوانحي شفافة *** دبّ الخشوع بها فهز كياني
قد عشت أؤمن بالإلـه ولم أذق *** إلا أخيرا لذة الإيمان
شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم *** فليرفعوه فلست بالجوعان
هذا الطعام المر ما صنعته لي *** أمي ولا وضعوه فوق خوان
كلا ولم يشهده يا أبتي معي *** إخوان لي جاءاه يستبقان
مدوا إلي به يدا مصبوغة *** بدمى وهذه غاية الإحسان
والصمت يقطعه رنين سلاسل *** عبثت بهن أصابع السجان
ما بين آونة تمر وأختها *** يرنو الى بمقلتي شيطان
من كوّةٍ بالباب يرقب صيده *** ويعود في أمن الى الدوران
أنا لا أحس بأي حقد نحوه *** ماذا جناه فتمسه أضغاني
هو طيب الأخلاق مثلك يا أبى *** لم يبد في ظمأ الى العدوان
لكن إن نام عني لحظة *** ذاق العيال مــرارة الحرمان
فلربما وهو المروع سحنةً *** لو كان مثلي شاعرا لرثاني
أو عاد من يدرى الى أولاده *** يوما تذُكّرَ صورتي لبكاني
وعلى الجدار الصلب نافذة بها *** معنى الحياة غليظة القضبان
قد طالما شارفتها متأملاً *** في الثائرين على الأسى اليقظان
فأرى وجوما كالضباب مصورا *** ما في قلوب الناس من غليان
نفس الشعور لدى الجميع وإنما *** كتموا وكان الموت في إعلاني
ويدور همس في الجوانح ما الذي *** في الثورة الحمقاء قد أغراني
أو لم يكن خيرا لنفسي أن أرى *** مثل الجموع أسير في إذعان
ما ضرني لو قد سكت وكلما *** غلب الأسى بالغت فى الكتمان
هذا دمى سيسيل يجري مطفئا *** ما ثار في جنبي من نيران
وفؤادي الموّار في نبضاته *** سيكف من غده عن الخفقان
والظلم باقٍ لن يحطم قيده *** موتي ولن يودي به قرباني
ويسير ركب البغي ليس يضيره *** شاة اذا اجتثت من القطعان
هذا حديث النفس حين تشف عن *** بشريتي وتمور بعد ثوان
وتقول لي إن الحياة لغايةٌ *** أسمى من التصفيق للطغيان
أنفاسك الحرى وإن هي أُخمدت *** ستظل تغمر أفقهم بدخان
وقروم جسمك وهو تحت سياطهم *** قسمات صبح يتقيه الجانِي
دمع السجين هناك في أغلاله *** ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى اذا ما أفعمت بهما الربا *** لم يبق غير تمرد الفيضان
ومن العواصف ما يكون هبوبها *** بعد الهدوء وراحة الربان
إن احتدام النار في وجهه *** أمر يثير حفيظة البركان
وتتابع القطرات ينزل بعده *** سيل يليه تدفق الطوفان
فيموج يقتلع الطغاة مزمجرا *** أقوى من الجبروت والسلطان
أنا لست أدري هل ستذكر قصتي *** أم سوف يعدوها رحى النسيان
أم أنني سأكون في تاريخنا *** متآمرا أم هادم الأوثان
كل الذي أدريه ان تجرعي *** كأس المذلة ليس في إمكاني
لو لم أكن في ثورتي متطلباً *** غير الضياء لأمتي لكفاني
أهوى الحياة كريمةً لا قيد لا *** إرهاب لا استخفاف بالإنسان
فإذا سقطُت سقطُت أحمل عزتي *** يغلى دم الأحرار فى شِرياني
أبتاه إن طلع الصباح على الدنا *** وأضاء نور الشمس كل مكان
واستقبل العصفور بين غصونه *** يوما جديدا مشرق الألوان
وسمعت أنغام التفاؤل ثرةً *** تجرى على فم بائع الألبان
وأتى يدق- كما تعود- بابنا *** سيدق باب السجن جلادان
وأكون بعد هنيهة متأرجحا *** في الحبل مشدودا الى العيدان
ليكن عزاؤك أن هذا الحبل ما *** صنعته في هذي الربوع يدان
نسجوه في بلد يشع حضارةً *** وتضاء منه مشاعل العرفان
أو هكذا زعموا وجيء به الى *** بلدي الجريح على يد الأعوان
أنا لا أريدك ان تعيش محطما *** في زحمة الآلام والأشجان
إن ابنك المصفود في أغلاله *** قد سيق نحو الموت غير مدان
فاذكر حكايات بأيام الصبا *** قد قلتها لى عن هوى الأوطان
وإذا سمعت نشيج أمي في الدجى *** تبكي شبابا ضاع فى الريعان
وتكتم الحسرات في أعماقها *** ألماً تواريه عن الجيران
فاطلب إليها الصفح عني إنني *** لا ابتغي منها سوى الغفران
مازال في سمعي رنين حديثها *** ومقالها في رحمة وحنان
أبني إني قد غدوت عليلة *** لم يبق لي جلد على الأحزان
فأذق فؤادي فرحة بالبحث عن *** بنت الحلال ودعك من عصيان
كانت لها أمنية ريّانة *** يا حسن أمال لها وأماني
غزلت خيوط السعد مخضلا *** ولم يكن إنتفاض الغزل في الحسبان
والآن لا ادري بأي جوانحٍ *** ستبيت بعدي أم بأي جنان
هذا الذي سطرته لك يا أبي *** بعض الذي يجري بفكر عان
لكن إذا انتصر الضياء ومُزقت *** بيد الجموع شريعة القرصان
فلسوف يذكرني ويُكبر همتي *** من كان في بلدي حليف هوان
والى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزان